اعلان

هواري بومدين.. تفاصيل "إشاعة" تسميمه وهذه "أملاكه"

على الرغم من مرور 38 سنة على وفاة ثاني رئيس للجزائر المستقلة، إلا أن الرجل لا زال حاضرا معنا فكرا وروحا، ولا زال "الموستاش" هو المثل الأعلى للجزائريين بالنظر إلى أهمية المرحلة التاريخية التي برز فيها نجم بومدين، سواء خلال الثورة التحريرية حين تمكن من توحيد صفوف المجاهدين وإعادة تنظيم الجيش، أو بعد الاستقلال خاصة بعد سنة 1965، حيث شرع في التّأسيس لدولة لا تزول بزوال الرجال، وفي هذه المناسبة تفتح الشّروق صفحاتها للمقربين من الرئيس الراحل بومدين، والذين عايشوه خلال الثورة التّحريرية أو أثناء مرحلة حكمه بغية إبراز جوانب جديدة في حياة واحد من أهم زعماء العالم في النصف الثاني من القرن العشرين.


العلبة السوداء للرئيس بومدين ورئيس تشريفاته خليوياتي رشيد:
رافقت بومدين 13 سنة ولم أره يهين أحدا أمامي
لازم الرئيس الراحل هواري بومدين 13 سنة ورافقه في جميع تنقلاته، كان يرتب لخرجاته ولقاءاته واجتماعاته وحتى لعطلته واستراحته، طار معه إلى مختلف عواصم العالم، عاش معه الحلو والمر وكان شاهدا على غضبه وهزله وبكائه، صاحبه كظله في حله وترحاله..، إنه المكلف بتشريفات الرئيس هواري بومدين وعلبته السوداء المجاهد والضابط السابق خليوياتي رشيد، الذي استقبلنا في بيته ليعود بنا 40 سنة للوراء ويحكي لنا عن الجوانب الاجتماعية والإنسانية المخفية للرئيس، وبالرغم من كبر سنه ومرضه وضبابية ذاكرته غير أنه كشف لنا بعض الجوانب المنيرة والنادرة التي ميزت الرئيس الراحل عن بقية الرؤساء وجعلت منه رمزا خالدا ورئيسا أتعب من بعده الرؤساء..
"كان أب ..أخ وصديق الجميع، لم يغلق بابه في وجه أحد، يصغي للضعيف ويأخذ الحق من القوي وينصف المظلوم، كذّب من قال عنه ديكتاتور، كان يسمع للآخرين ويستشيرهم، له عيون الصقر ووقفة الأسد، كان سريع الغضب وسريع الرضا، يضرب بيد ويحن بالأخرى، يحب الحديث إلى الناس يشعر بآلامهم وآمالهم، يحاسب دون أن يظلم، يجازي ويعاقب دون تشهير ولا تنكيل، حبه للجزائر أنساه نفسه وعائلته .. مات ولم يترك دارا ولا دينارا.. بهذه العبارات استرجع السيد خليوياتي رشيد ذكرياته مع الرئيس الراحل هواري بومدين مؤكدا أنه أعظم شخص صادفه على الإطلاق، فتأثره به لم ينقطع إلى اليوم، حيث تملأ صوره مع الرئيس جميع أركان بيته، أكد لنا أن علاقته مع الرئيس بدأت أيام الثورة التحريرية حيث عرفه في صفوف الكفاح وشاركه الجهاد والنضال، وبعد الاستقلال تم تعيينه ضابطا في الجيش الشعبي الوطني ليستدعى رسميا بعد التصحيح الثوري ليتولى مهام الإشراف على تشريفات الرئيس الراحل، وهي المهمة التي لم تكن حسبه سهلة أبدا خاصة وأن الأمر يتعلق برجل يدعى هواري بومدين الذي كان يتميز بشخصيته القوية التي تزيد من حدتها نظراته الثاقبة وابتسامته العريضة..
لم يهن مسؤولا في حياته أمام الناس
أكد محدثنا أن علاقة الرئيس الراحل هواري بومدين بالمسؤولين كانت صعبة ومعقدة للغاية، حيث كان لا يقبل أبدا التهاون والتسيب في أداء الواجبات والقيام بالمسؤوليات على أكمل وجه، وكان دائم التقييم لأداء المسؤولين بداية من الوزير وإلى غاية "المير"، لا يسمح بالخطأ مهما كان بسيطا ويشجع على الإتقان والنجاح، "وبالرغم من كل هذا لم يوبخ أبدا أي مسؤول أمام الناس، فقد كان يكره التشهير بأخطاء الآخرين وكان يردد كثيرا هذا البيت الشعري "جراحات السنان لها التآم ولا يلتئم ما جرح اللسان.." كان يستدعي المسؤولين إلى مكتبه الخاص ويحاسبهم، يشكر من أحسن ويعاقب من قصّر، كان يعطي الصلاحيات الكاملة لمن عينهم في مناصب المسؤولية غير أنه كان يتلقى تقارير مفصلة عن أدائهم، فخدمة المواطن كانت المعيار الوحيد لنجاح أي مسؤول مهما كانت مرتبته
لم يعين أحدا من عائلته وأقاربه في منصب مسؤولية


"كان الرئيس أرفع عن الشبهات في تقليد المناصب وتوزيع المسؤوليات، فلم يسجل له التاريخ أنه عين أحدا من عائلته وأقاربه في أي منصب مسؤولية مهما كان بسيطا، رغم أن إخوته كثر وأقاربه بالمئات، حيث كان شعاره الجزائر حررها الجميع ويبنيها الجميع، كان يكره الوساطة في كل شيء ومعياره الوحيد هو الكفاءة والتفاني في أداء الواجب، كان يقدس الوقت ويحسب للثانية قيمتها، لم يتدخل في ترقية أخيه في الخطوط الجوية الجزائرية، ولم يرفع رتبة أخيه في الجيش، مات أبوه وهو يعالج إلى جنب البسطاء في مستشفى "مايو" بالعاصمة، عائلته كانت تملك مسكنا هشا بسيطا في الريف كان يفتقد حتى لغرفة تجمع الضيوف حيث اضطر المسؤولون ممن حضروا جنازة والده إلى الجلوس في العراء..
 لا يعرف السياقة ولم تكن له سيارة ولا بيت
كشف لنا السيد خليوياتي رشيد أن الرئيس الراحل هواري بومدين لم يكن يتقن السياقة ولم تكن له سيارة خاصة، وهذا بسبب كثرة التزاماته من جهة وزهده من جهة أخرى، حيث توفي ولم يترك لعائلته منزلا باسمه وحتى رصيده في البنك لم يكن يتجاوز 6000 دج، "وهذا ما يجعله أفقر الرؤساء على الإطلاق، لأنه لم يكن يخطط لصناعة مجده وخدمة مصالحه، وهذا ما جعل الكثير من أصدقائه وأقاربه يلومونه على ذلك"، كان يكره الجهوية والتفرقة بين المواطنين بسبب لهجتهم وانتماءاتهم، همه الوحيد هو الجزائر، لم يكن يبحث عن الشهرة والخلود يقبل الانتقاد ويقاطع الطعام ليحس بالفقير والجائع..".
مجلس وزراء في كل ولاية
عاد بنا السيد خليوياتي إلى خرجات الرئيس الميدانية في الولايات، حيث كان يطلب تقريرا مفصلا عن واقع التنمية في الولاية التي يرغب بزيارتها، ويصطحب معه جميع الوزراء، لم يكن بروتوكوليا في تنقلاته في أرجاء الولاية، كان يحب السير بحرية ليتكلم مع الناس ويستمع الى انشغالاتهم ومطالبهم، كان يسجل كل كبيرة وصغيرة، يسمع للكبير والصغير، يتفقد المناطق المعزولة، ويمشي إلى حيث تقوده عيناه، وفي نهاية الزيارة كان يعقد مجلسا وزاريا في الولاية ليتحدث كل وزير عن واقع ومشاريع الولاية في قطاعه وبعدها يسجل تقريرا عن واجبات كل وزير حيث يكون التقرير مربوطا بمدة زمنية معلومة ليحاسب كل وزير على واجباته إزاء المواطنين، كان يحب السماع للمواطنين ويأخذ باقتراحاتهم.
هكذا اكتشف الرئيس عمر الزاهي
بعيدا عن السياسة كان الرئيس الراحل هواري بومدين يعشق الفن بمختلف طبوعه خاصة الطابع الشعبي، حيث أكد محدثنا أن الرئيس طالب بتنظيم سهرات شعبية طيلة رمضان، وكان يحضرها شخصيا نهاية الأسبوع لتشجيع الفنانين على الظهور والتميز، ومن الفنانين الذين شاركوا في هذه التظاهرة الفنان المرحوم عمر الزاهي الذي كان حينها شابا صغيرا ولم يكن معروفا لدى العوام، وأعجب الرئيس كثيرا بصوته وألحانه وتنبأ له بمستقبل كبير حيث أكرمه وشجعه رفقة عديد الفنانين الذين تم اكتشافهم في الليالي الرمضانية التي أمر الرئيس بتنظيمها.
بكى كالأطفال على الصحفيين ضحايا تحطّم طائرة الفيتنام
"لم أر في حياتي الرئيس بومدين يبكي بمرارة ودون توقف على الصحفيين ضحايا تحطم الطائرة التي كانت ترافقه في رحلته إلى الفيتنام سنة 1974، حيث لقي 15 صحفيا حتفهم بسبب تحطم الطائرة في مدينة هانوي، إذ اعتبر نفسه مسؤولا بطريقة غير مباشرة على وفاتهم باعتبارهم كانوا في مهمة مهنية لتغطية زيارة الرئيس للفيتنام وتأثر كثيرا ودخل في دوامة من الحزن والألم والحسرة، وكأن الذين ماتوا كانوا أولاده، فلم يبك الرئيس في حياته قط مثلما بكى على الصحفيين الذين لم ينسهم أبدا حتى وفاته حيث كان يتحدث عنهم ويدعو لهم ويتعصر ألما عند تذكرهم. فقد كان يبكي كالأطفال من شدة تأثره بالطريقة التي ماتوا بها".
 كان يحب الفلاحين ويقبّل أيديهم


"كان الرئيس الراحل يرى في الفلاحين مستقبل الجزائر ومصدر أمانها واستقرارها، كان يستمتع بالحديث إليهم ويصغي لهم باهتمام، كان يبحث عنهم في خرجاته، يداعبهم، يدردش معهم ويمازحهم، كان يقبّل أيديهم وجباههم، كان يغرس فيهم فكرة التحدي من أجل تحقيق الأمن الغذائي مؤكدا لهم في كل مناسبة أن الاستقلال الحقيقي هو الاستقلال الاقتصادي والغذائي وهذا ما يجعله يطلق عديد المشاريع الفلاحية على غرار الثورة الزراعية، كما أطلق العبارة الشهيرة الأرض لمن يخدمها...".
 "المسفوف" طبقه المفضل
"لا أعرف أحدا يحب أكل الأطباق التقليدية مثل الرئيس الراحل هواري بومدين، حيث كان يشترط في زيارته الميدانية الطبق التقليدي الخاص بكل ولاية ومنطقة، وكان يطلب من طباخه الخاص الأطباق التقليدية في مقدمتها "المسفوف" الذي كان يعشقه كثيرا ويكثر من تناوله خاصة مع زيت الزيتون وأحيانا اللبن، كان يكره المأكولات السريعة والمشبعة بالزيوت، فالوجبات التقليدية الغنية بالخضراوات والحبوب كانت تبقيه نشيطا وقويا طوال الوقت.
 كذّب من قال عنه ديكتاتور
"من لا يعرفك يظلمك، كثيرا ما كنت أسمع عن الرئيس أنه كان ديكتاتورا ومتعصبا لرأيه وهذا كذب وبهتان، وأنا أشهد للتاريخ من هذا المقام أن الرئيس كان أبعد الناس عن الديكتاتورية والتفرد بالرأي وأنا شاهد على الكثير من القرارات التي اتخذها ثم تراجع عنها بعد مشاورته للمقربين منه من المسؤولين والأصدقاء، فلم يكن يجد حرجا في الاستماع إلى آراء الناس واقتراحاتهم مهما كانت طبيعة مناصبهم، فالمهم حسب الرئيس هو فعل الصواب بغض النظر عن صاحب الفكرة والاقتراح".
 قصة "البرنوس" وحنيّة الرئيس 
"في إحدى الليالي الباردة كلفني الرئيس الراحل باستقبال الرئيس الليبي معمر القذافي في وادي سوف، وكنت حينها ارتدي معطفا رقيقا فنزع "برنوسه" وألبسني إياه بنفسه ورفض بعدها استرجاعه وأهداني إياه لتكون هذه الهدية أغلى ما قدم لي في حياتي ولازلت إلى اليوم أشم رائحة الرئيس وأشعر به كلما ارتديته، فهذه الحادثة تدل على إنسانية الرئيس وحنيته على من هم حوله فلم يكن متكبرا ولا جبارا ولا متميزا بل كان يعاملنا كالأبناء والإخوة.

الرئيس الأسبق للجبهة البومديينية محمد سعدي لـ"الشروق":
محاولة زبيري الانقلاب على بومدين فتحت المجال لضباط فرنسا


يؤكد الأستاذ محمد سعدي، الرئيس الأسبق لحزب الجبهة البومديينية، في هذا الحوار الذي خص به "الشروق" بأن عديد الأطراف تسعى إلى الإساءة لتاريخ ومسار الرئيس الراحل هواري بومدين، مؤكدا بأن دوره الفعال لا يقبل الجدل، سواء أثناء الثورة أو بعد الاستقلال، وقال محمد سعدي بأن بومدين بريء من التهم التي لا تزال لصيقة به، وفي مقدمة ذلك ملف الاغتيالات، وقضية ضباط فرنسا، وغيرها من المسائل التي لا تزال تصنع الجدل. 
بداية، لماذا يطلقون عليك اسم محمد سعدي البومدييني؟
أول من أطلق علي هذا الاسم هو الأخ خالد عمر بن ققه، يعد من إطارات الحزب، وهو الآن إعلامي في الإمارات العربية، وأصبح متداولا عند الجميع، باعتباري أول من بادر إلى إخراج بومدين من الحظر الذي كان مضروبا عليه من يوم وفاته إلى يوم تأسيس الجبهة البومديينية، وأتذكر أنه بعد تأسيس الحزب مباشرة، باشر اتحاد الشبيبة إلى إحياء أول ذكرى لوفاة بومدين في مدينة سطيف.
38 سنة تمر على وفاة بومدين، لكن صداه لا يزال يصنع الحدث، ما تعليقك؟
الشعب الجزائري شعب وفي، ولا يتنكر لرجالاته المخلصين، وهذا ما حدث مع بومدين، فالشعب الجزائري عايش مرحلته وعرف إخلاصه له، وكيف ضحى بكل شيء من أجله، فظل محتفظا بذكراه في اللاشعور الجماعي، وبمجرد تحريك الذاكرة يسترجع الشعب كل الأمجاد البومديينية، ويتفاعل معها.
كيف تقيّم مسيرة بومدين خلال فترة الثورة؟
هناك تعتيم على مرحلة بومدين الثورية، ذلكم أنه هو الذي أسس المخابرات والمواصلات السلكية واللاسلكية بمساعدة رشيد زقار، وهو الذي كان يقود بنفسه الكتائب التي كانت تنقل الأسلحة من الحدود الغربية إلى داخل الولاية الخامسة حتى جبال الونشريس بالولاية الرابعة، والأهم من كل هذا هو إعادة تشكيل وحدات جيش التحرير بعد أن فكّكت وتشردت بداية من سنة 1958، فكوّن هيئة الأركان المعروفة، وأعاد هيكلة جيش التحرير الوطني في الداخل وعلى الحدود، وسلّح الجيش تسليحا عصريا، وأصبح يهدد فرنسا بالحرب الشاملة والمفتوحة، وكان يريدها على شاكلة الحرب الفيتنامية، وهذا واضح مع بداية 1961، مما جعل ديغول يتخوف من" ديان بيان فو" ثانية، ويقرر الاعتراف بتقرير المصير، والجلوس إلى طاولة المفاوضات.
هناك من يتهمه بالضلوع في اغتيال أبرز قيادات الولاية التاريخية الأولى في محاكمات مختلفة، ما رأيك؟
أولا، اغتيال عباس لغرور ومن معه، وشريط لزهر ومن معه، تم من طرف جماعة الصومام في تونس، ولم يكن وقتها بومدين في تونس، حيث استدعي من الغرب ولأول مرة سنة 1958 إلى تونس، وعين رئيسا للمحكمة التي حاكمت لعموري ومن معه، في محاكمة دامت شهرا كاملا، وبعد رفع الجلسة للمداولة والتصريح بالحكم رفض بومدين الرجوع للجلسة والنطق بحكم الإعدام، وتم إعدام لعموري ومن معه من العقداء دون صدور الحكم، ويمكن لأي مشكك أن يسأل بن عوده أو صالح قوجيل، هذا هو الشيء الوحيد الذي قام به بومدين وهي المرة الأولى والأخيرة التي استخدم فيها بومدين من جماعة الصومام.
هل نفهم من كلامك أن بومدين بريء من دم إطارات وقيادات الولاية التاريخية الأولى؟
جماعات الولاية الأولى أعدموا وشردوا بعد لقاء الصومام، وعندما استلم بومدين هيئة الأركان أعاد لهم الاعتبار، وجعل منهم سنده الأساسي، وسلم مسؤوليات حساسة أثناء حكمه، فأصبح قائد الولاية الأولى العقيد الطاهر الزبيري قائد الأركان، فاغتر واستعمل الجهوية الضيقة للاستيلاء على السلطة، وورط الجميع بدون سبب جدي يذكر.. مغامرة مجنونة عن جهل.
خلّف تولي بومدين قيادة أركان الجيش الكثير من الجدل، ما هي وجهة نظرك في هذا الجانب؟
الأب الروحي لجيش التحرير بعد كل النكبات التي حلت به بعد لقاء الصومام هو العقيد هواري بومدين، وهذا لا يختلف فيه المجاهدون الذين عاصروا الأحداث الأليمة وقتها، خاصة جنود وإطارات الولاية الأولى والقاعدة الشرقية الذين تعرضوا لكل أنواع الإهانات قبل مجيء بومدين، وفيهم من هم على قيد الحياة.
الكثير ينتقد خيار لجوئه إلى ضباط فرنسا بعد الاستقلال، ما رأيك؟
ضباط فرنسا لا علاقة إيديولوجية ولا ثقافية ولا لغاية مع بومدين، حيث تم دخولهم للثورة على يد جماعة الصومام في تونس، وكانت لهم السلطة الكاملة على جيش الحدود تحت رئاسة العقيد محمدي السعيد وإشراف كريم بلقاسم، وعندما استلم بومدين هيئة الأركان وجدهم أمامه كأمر واقع، فأدمجهم في الوحدات المستحدثة مثلهم مثل باقي المجاهدين، وشكّل منهم مجموعة من المدربين، كما وضع البعض منهم تحت مسؤولية المجاهدين، ولم يكن لهم أي نفوذ.  
لكن الكثير يلومه على منحهم الأولوية في التكوين والمسؤوليات، بعد الاستقلال، ما قولك؟
أثناء الاستقلال لم يكن فرق بينهم وبين باقي المجاهدين في الداخل والخارج، وقد استفاد منهم الجيش الوطني الشعبي في التسيير أيام الاستقلال لعدم وجود إطارات مكونة وقتها، وقد فضلهم بومدين على الأجانب في قضية تكوين وتسيير الجيش الوطني الشعبي، خاصة وأنهم مجاهدين من سنة 1957، ولم تثبت خيانة أو عمالة أي واحد منهم، وكان بومدين لا يسلمهم إلا المسؤوليات الإدارية، أما الوحدات الهامة والنواحي فكان يسلمها للمجاهدين العاديين، زيادة على أنه ليس من حق أي كان سواء بومدين أو غيره أن يجرح في هذه المجموعة بعد قبولهم مجاهدين من الوهلة الأولى.
طريقة إعدام العقيد شعباني لا تزال تسيل الكثير من الحبر، فما موقع بومدين من هذه الحادثة؟
العقيد شعباني تمت محاكمته بتهمة التمرد، وتم إعدامه لأنه رفض تطبيق أمر انتقاله إلى منصبه الجديد بهيئة الأركان بعد أن وافق، وهي جريمة عسكرية خطيرة، ورفض الرئيس بن بلة الإعفاء عنه رغم التدخلات، وبومدين لم يكن له أي دور في الإعدام، لأنه كان وزيرا للدفاع، وليس من اختصاصه الحكم أو الإعفاء، وهذه القضية أصبحت وقائعها معروفه خاصة بعد الشهادات العديدة التي أثبتت براءة بومدين.
كيف تصف توليه الحكم بعد الإطاحة ببن بلة، هل هو انقلاب أم تصحيح ثوري كما يصطلح عليه؟
إذا نظرنا للقضية من الناحية الدستورية البحتة فهو انقلاب عسكري على الشرعية الشعبية، أما من الناحية الموضوعية فإن الشرعية السائدة وقتها عمليا هي الشرعية الثورية، فالشرعية التي ساعدت بن بلة هي التي أطاحت به، وفي جميع الحالات يكفي التصحيح الثوري فخرا أنه أخرج 2500 شخص به وطنية كانت في المعتقلات من دون محاكمة، وأدخل 05 أشخاص ممن عارضوا التصحيح الثوري ثم أطلق سراحهم بعد أيام.
هل ترى أنه نجح في مجمل خياراته الاقتصادية والاجتماعية، من خلال لجوئه إلى تأميم المحروقات والثورة الزراعية والصناعية، وفق الخيار الاشتراكي؟
جميع الخيارات التي تبناها بومدين هي خيارات منصوص عليها حرفيا في برنامج مؤتمر طرابلس المصادق عليه من طرف المؤتمر بالإجماع على خيارات النظام الاشتراكي والإصلاح الزراعي، وقد عمل بومدين ما في وسعه لتجسيد ما جاء في وثيقة طرابلس بما يعرف بالثورات الثلاثة، وقد كان المشروع ككل في بدايته مع قلة الموارد المالية وندرة الإطارات والكوادر الوطنية، ولكن رغم ذلك أسس لقاعدة صناعية صلبة ما زالت الجزائر تعيش عليها، وأسّس لثورة زراعية أخرجت الفلاح من نظام الرعي والخماسة، وأدخلته في تيار العصرنة، ولم تكتمل التجربة، حيث تم التراجع عنها سنة 1979 من طرف حكومة قاصدي مرباح بطريقة ارتجالية وغير مدروسة، وما زال القطاع الفلاحي يعيش في فوضى إلى اليوم، أما بالنسبة للثورة الثقافية في عهد بومدين فعرفت نقلة نوعية في جميع المجالات، خاصة في التعليم بجميع مراحله زيادة على البعثات الدراسية في الخارج، لكن مع الأسف بعد وفاته توقف كل شيء، حتى الذين تكونوا في الخارج عندما عادوا لم تتم الاستفادة منهم فهاجروا من جديد، وهم الآن في أكبر عواصم العالم، ولهم مكانتهم العلمية، وفي عهده برزت نخبة لا بأس بها من المثقفين الرواد في جميع أنواع الثقافة من جيل السبعينيات، من شعراء وكتاب، وما زال معظمهم في الساحة إلى اليوم من جميع الإيديولوجيات والاتجاهات، وعلى العموم فمشروع المجتمع الذي تبناه بومدين كان واضحا ومصادقا عليه من طرف الشعب بعد المناقشة الديمقراطية الواقعية والاستفتاء، وهو الميثاق الوطني لسنة 1976 ونجاحه نسبي مثل أي عمل إنساني.
.

ليست هناك تعليقات