هواري بومدين رجل الجزائر البيضاء مقال رائع جدا
بقلم: فوزي حساينية
إنني أعتقد أن أفكار الرئيس الراحل هواري بومدين حول التنمية الاقتصادية والتوازن الجهوي وتحليلاته لتوازن وصراع القوى الدولية خاصة في حوض البحر الأبيض المتوسط وتصوراته ورؤاه الإستراتيجية لقضايا السلم والحرب لا تزال بحاجة إلى دراسات متعمقة للوقوف على أبعادها والإمساك بخيوطها الرفيعة التي من شأنها أن تكشف عن عبقرية سياسية وإستراتيجية متميزة لا تزال قادرة على العطاء والإلهام الديناميكي المتجدد وقد لاحظ كبار الساسة في العالم وسجلوا إعجابهم بالقدرات الفكرية لبومدين فكاتب الدولة الأمريكي للشؤون الخارجية سنة 1979صرح قائلا: (كان بومدين رجل دولة يتميز بصفات الرئيس والمفكر هذه الصفات التي تعترف بها الحكومة الأمريكية فيما يتعلق بالمشاكل السياسية والاقتصادية العالمية).
وفي السابع والعشرين من شهر ديسمبر1978 رحل الفارس الكبير وترك الجزائر في مواجهة قدرها لقد مات بومدين الإنسان كما يموت كل البشر هذه سنة الحياة لكن بومدين الرمز لا يزال حيا ولعله أن يزداد قوة وتمكنا من أسباب الخلود يوما بعد يوم ذلك أن القيم التي آمن بها بومدين وحملها في قلبه وعقله وسخر حياته لخدمتها والانتصار لها لا تزال حية مستمرة لأنها قيم أمة تضرب بجذورها في أعماق القِدَمِ وتتطلع من حاضرها الأليم إلى آفاق أوسع وأرحب من الحرية والتقدم والوحدة لقد قال بومدين سنة 1970 معلقا على وفاة الزعيم جمال عبد الناصر: (العظماء يظهرون فجأة ويغيبون فجأة) وقد كان هو نفسه برحيله المفاجئ والغامض تجسيدا دراماتيكيا لما قاله عن رحيل جمال عبد الناصر.
وعلى ذكر مسألة الوحدة وهي إحدى المشاغل الأساسية للأمة العربية في العصر الحديث يحق لنا أن نتساءل ماذا قدم بومدين لقضية الوحدة ؟ وهذا السؤال المشروع يفضي بدوره إلى تساؤل مقابل عن أي وحدة نتحدث ؟ الوحدة العربية أم الوحدة المغاربية ؟ لقد كان بومدين واقعيا فهو رغم إيمانه المطلق بالعروبة وبضرورة التنسيق في المواقف وتدعيم أسس التقارب كان يُدرك أن أوان الوحدة العربية لم يحن بعد ! إذ كان مطلعا على خبايا السياسة العربية وعارفا بنفسية الكثير من النخب الحاكمة في الوطن العربي التي كانت في أغلبيتها تزايد بقضية الوحدة على الجماهير الحائرة لا أكثر ولم يكن بومدين يحب المزايدات أو يهوى الكلام لمجرد الكلام لذلك ركز جهوده ومساعيه العملية على الوحدة المغاربية وحتى هنا نلاحظ قلة تصريحاته وخطبه ولكن سجل له التاريخ مجموعة ضخمة من المواقف الحية المشرفة التي كان يرمي من خلالها إلى بناء مغرب الشعوب في ظل الصمت المسئول وبعيدا عن الضجيج الدعائي الذي اشتهرت به بعض القيادات العربية ومن المفيد توضيحا للحقيقة أن نلقي نظرة ولو خاطفة على كتاب (العرب في العاصفة) الذي وضعه السيد محمد المصمودي وزير خارجية تونس الأسبق وصدر في فرنسا سنة 1977 لنعلم أن بومدين عرض في زيارة له إلى تونس عام 1973 وخلال المحادثات السرية بين البلدين على الرئيس التونسي لحبيب بورقيبة مشروعا وحدويا كاملا شاملا كتمهيد للوحدة المغاربية وقد أوضح بومدين الذي كان جادا حازما في طرحه أن الوحدة المغاربية ستكون مقدمة للوحدة العربية الإسلامية فيما بعد موضحا أن المشاريع الوحدوية في المشرق العربي فشلت لأن القائمين عليها كانوا يفتقرون للجدية وأعرب بومدين عن إيمانه وثقته التامة في مشروع المغرب العربي الموحد.
أهداف الرئيس
وإذا كان هذا المشروع الوحدوي- والكلام دائما للمصمودي- لم يتم فالسبب هو رفض الرئيس التونسي الذي راح يشترط على بومدين أن يتنازل عن القطاع القسنطيني لصالح تونس ! حتى يمكن لتونس أن تكون ندا للجزائر ومساوية لها في الإمكانيات وبالتالي يمكن للوحدة أن تجري بين بلدين متكافئين أي أن بورقيبة أراد أن يُخضع الجزائر لعملية جراحية يقتطع بها الجزء الأكبر من شرقها ! كثمن للدخول في المشروع الوحدوي المغاربي الذي طرحه بومدين ولا نستطيع هنا أن نعرض كل ما تضمنه كتاب وزير الخارجية التونسي الذي كان شاهد عيان على هذا اللقاء التاريخي بين رئيسي البلدين ولكن قراءته تكشف لنا أن الوحدة المغاربية في فكر ومواقف الرئيس هواري بومدين تحتاج إلى دراسة وتحليل عميق حتى يمكن الوقوف على أبعاد الفكر الوحدوي عند بومدين الذي كان دون شك يستوحي تراث الحركة الوطنية ونضالها العتيد في سبيل مغرب عربي موحد حر ومزدهر لذلك نجد أن فكرة الوحدة المغاربية لدى الرئيس هواري بومدين ليست فكرة تائهة معزولة أو قضية تُثار في المناسبات العارضة بل هي جزء من نسق فكري متكامل ودافع أساسي من الدوافع المحركة لسلوكه السياسي وهو ما ينبغي أن يُؤخذ بعين الاعتبار للوصول إلى فهم هذا الجانب من شخصية الرئيس والاقتراب الصحيح من فكره السياسي.
واستكمالا للصورة لابد من الإشارة هنا إلى قضية الاحتلال الإسباني لكل من سبتة ومليلية فالمصادر المؤكدة تذكر أن بومدين شجع وحرض الحسن الثاني ملك المغرب الشقيق على المطالبة باسترداد المدينتين السليبتين متعهدا له أن الجيش الجزائري سيكون إلى جانب الجيش المغربي في حالة وقوع الحرب بين المغرب وإسبانيا من أجل تحرير هاتين المدينتين المغاربيتين فبومدين كان ينظر للمنطقة المغاربية كمنطقة متكاملة أمنيا واستراتيجيا وهي نظرة غاية في الأهمية وبعد النظر.
ويشير بعض الكتاب والباحثين مثل الصحفي والكاتب الفرنسي بول بالطا في دراسته عن استراتيجية بومدين إلى حقيقة أن أحد الدوافع والأهداف الأساسية وراء إصرار وتصميم الرئيس هواري بومدين على تصنيع الجزائر وتقوية اقتصادها هو تحويل الدولة الجزائرية إلى قوة صناعية واقتصادية يكون بمقدورها أن تتحمل أعباء الوحدة المغاربية وتحدياتها الدولية تماما كما كان الأمر مع بروسيا في تجربة الوحدة الألمانية وليست مدارس أشبال الثورة إلا تجسيدا لفلسفة رجل الدولة هواري بومدين التي لم تكن تهدف فقط إلى تكوين نخبة عسكرية ممتازة بل وإلى تزويد الأمة والدولة بجيل من الكفاءات النوعية يكون قادرا على الاضطلاع بمهمة حماية الأمة وضمان قوة وتطور واستمرارية الدولة حتى في حالة مواجهتها لأكثر التحديات تعقيدا وخطورة مثل الحروب الطاحنة أو الكوارث الاقتصادية والطبيعية المُدَمِرَةِ وهي فكرة تعود في أصولها النظرية والعملية إلى التجربة الألمانية.
لقد كان بومدين رجل دولة حقا كما وصفه أعداؤه وأصدقاؤه وكان يمتلك رؤية إستراتيجية بعيدة المدى للواقع الوطني والإقليمي والعالمي برمَّتهِ فقد أعلن في إحدى ندواته الصحفية: (إن هذا العالم فُصل في غيابنا والآن نحن موجودون ويجب إعادة صياغة الواقع الدولي وفق مقتضيات العدالة) ومثل هذا القول يدل بوضوح على أن بومدين في تخطيطه البعيد كان يتطلع إلى المساهمة في إعادة ترتيب الأوضاع الدولية وفق منظور جديد وهو في هذا المجال رائد دون شك.
تحليلاتويبقى الخلل الوحيد في المرحلة البومدينية كامنا في محيط الرجل الأول فباستثناء قلة من رجال الدولة الأكفاء فقد كان بومدين محاطا بمجموعة من الأشخاص الذين لم يكونوا في مستوى طموحاته ورؤاه كما لم يكونوا يقينا في مستوى نزاهته الشخصية وزهده وترفعه الأسطوري عن الإغراءات المادية والمعنوية ويُستفاد من سيرة بعض الذين عملوا مع الرئيس أنهم لم يكونوا في مستوى رجال الدولة وإنما كانوا مجرد إداريين عاديين لا أكثر وكانوا بصورة أخص عاجزين عن الارتقاء إلى مستوى أفقه الاستراتيجي ولم يكونوا على دراية كافية بالمخاطر التي كانت محدقة بالجزائر من كل الجوانب وكان بومدين متقدما عليهم بخمسين عاما على الأقل والدليل على صحة هذا التحليل أن بومدين لم يكد يغيب عن ساحة الأحداث حتى بدأ التراجع المريع على كل المستويات ولم يكن بمقدور بومدين أن يجسد كل طموحاته- التي هي طموحات رجل دولة _ وأن يضع تصوراته كلها موضع التطبيق الميداني لأنه لا يمكن لرجل مهما كانت عظمته وقدراته القيادية أن يفتتح فصلا جديدا في التاريخ مالم يكن مدعوما ومحاطا بنخبة لها من الكفاية والقدرة ما يجعلها أهلا لحماية ودعم الرجل الأول أو مواصلة المسيرة من بعده وليس التربص به وتَحيُّنْ الفرص لتقويض مبادئه ومنجزاته فقد بادر الذين آل إليهم الأمر مباشرة بعد رحيل بومدين إلى التخلي عن سياسته في تطوير الصناعات الجزائرية عن طريق التعاون مع الألمان والإيطاليين مثلا وفوتوا على الوطن فرصا لا تُقدر بثمن كما أنهم بادروا بالقضاء على مدراس أشبال الثورة قضاء مبرما ولكن وبعد سنوات طويلة ضائعة هاهي الجزائر تُعيد ربط ما انقطع من حبال الماضي وتستأنف التعاون الصناعي مع الألمان والإيطاليين وتؤسس لتعاون صناعي مع الإيرانيين والكوريين وتُعيد فتح مدارس أشبال الثورة وهي خطوات تُوحي بالأمل وتستدعي مزيدا من العمل وفاءً واستجابةً لقيم الدولة ومجد الأمة وسلامة المجتمع.
وتبقى إنجازات بومدين في الحرب والسلم على المستويين الإقليمي والعالمي شاهدة على عظمة الرجل ومقدرته فهو واحد من بناة الدول العظام الذين أنجبهم المغرب الكبير مثل يوسف بن تاشفين (مؤسس الدولة المرابطية) وعبد المؤمن بن علي (مؤسس الدولة الموحدية العظيمة) وابن حماد (مؤسس الدولة الحمادية) وغيرهم كثير فالأرضية التي كان يقف عليها بومدين لم تكن قفرا بل كانت غاية في الثراء والعطاء ويبقى دور العظماء يمثل ذلك التراث وهضمه ووضعه في خدمة الحاضر وديناميكيته الحية المتجددة وضمن هذه الرؤية نستطيع أن نفهم ما قاله الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في رفيق دربه: (رحمه الله رحمة واسعة لقد كان رجلا عظيما) إي نعم الرحمة والرجولة والعظمة تلخيص رائع لمسيرة ومنجزات القائد والزعيم هواري بومدين.
وهنا أشعر بضرورة تلبية رغبة الذين يُحبون التركيز على ما يعتبرونه عيوبا وأخطاء في شخصية ومسيرة بومدين فالكثيرون يُسهبون في إبراز أخطاء بومدين ولكنهم لم يقولوا لنا لماذا لم يصححوا هذه الأخطاء من بعده ؟ فمن يوم رحيله وعلى امتداد عشرين سنة تكلموا وانتقدوا ولكنهم لم ينجزوا إلا شيئا واحدا وهو العمل على تدمير كل ما حققه الوطن في عهده ! فالكل يعرف الحالة التي أصبحت عليها الجزائر بعد مدة العشرين سنة تلك ثم إن بومدين لم يدَّعِ العصمة فقد كان يردد باستمرار (الذين لا يعملون هم وحدهم الذين لا يخطئون) لكن عندما نقرأ مثلا كتاب (جذور الأزمة في الجزائر) للسيد أبو جرة سلطاني نجد أنه يحاول بطريقة أو بأخرى _ على غرار كل الإسلاميين- الإساءة لشخص الرئيس الراحل إذ يصفه طورا أنه ثعبان أسود ومرة بالثعبان الأحمر !...لكن هيهات فبومدين خدم الإسلام كما لم يخدمه من اتخذوا من الإسلام سلما للمطامح الشخصية والمكاسب الاجتماعية والأسرية وجعلوا من هذا الدين العظيم أداة لتحصيل المنافع المادية التي كان بومدين بزهده الحقيقي يضعها تحت أقدامه حقا لا نجد مناصا ونحن نسمع ونقرأ محاولات النيل من شخصية الرئيس الراحل إلا أن نستعيد مقولة الفيلسوف الألماني (شوبنهور) في أمثال هؤلاء (ذوو النفوس الدنيئة يجدون المتعة في البحث عن أخطاء رجل عظيم) لكن ولحسن الحظ فليس كل الرجال يكرهون الرجال الكبار فعندما نقرأ مذكرات الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي ومذكرات الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد- الذي لن يغفر له التاريخ مسؤوليته في القضاء على مشروع الدولة الذي كان قد قطع شوطا كبيرا يوم وفاة بومدين- وكتابات الدكتور محي الدين عميمور ونستمع لشهادة الدكتور المؤرخ محمد العربي الزبيري نستطيع أن نقف على جوانب رائعة من شخصية الرئيس هواري بومدين بأبعادها الفكرية والعملية ومنطلقاتها الثورية والقومية والإنسانية تلك الأبعاد والمنطلقات التي نجدها ملخصة أحسن تلخيص في ما قاله وزير الخارجية البلجيكي سنة 1978 تعليقا على وفاة بومدين: (بومدين رجل الدولة العظيم فقدانه خسارة للعالم أجمع وليس لبلاده فقط) و أيضا فيما قاله كارلوس روملولي رئيس الفيليبين وقتها: (إن الرئيس هواري بومدين سيبقى واحدا من كبار الثائرين الذين عرفهم التاريخ المعاصر)
إنني أعتقد أن أفكار الرئيس الراحل هواري بومدين حول التنمية الاقتصادية والتوازن الجهوي وتحليلاته لتوازن وصراع القوى الدولية خاصة في حوض البحر الأبيض المتوسط وتصوراته ورؤاه الإستراتيجية لقضايا السلم والحرب لا تزال بحاجة إلى دراسات متعمقة للوقوف على أبعادها والإمساك بخيوطها الرفيعة التي من شأنها أن تكشف عن عبقرية سياسية وإستراتيجية متميزة لا تزال قادرة على العطاء والإلهام الديناميكي المتجدد وقد لاحظ كبار الساسة في العالم وسجلوا إعجابهم بالقدرات الفكرية لبومدين فكاتب الدولة الأمريكي للشؤون الخارجية سنة 1979صرح قائلا: (كان بومدين رجل دولة يتميز بصفات الرئيس والمفكر هذه الصفات التي تعترف بها الحكومة الأمريكية فيما يتعلق بالمشاكل السياسية والاقتصادية العالمية).
وفي السابع والعشرين من شهر ديسمبر1978 رحل الفارس الكبير وترك الجزائر في مواجهة قدرها لقد مات بومدين الإنسان كما يموت كل البشر هذه سنة الحياة لكن بومدين الرمز لا يزال حيا ولعله أن يزداد قوة وتمكنا من أسباب الخلود يوما بعد يوم ذلك أن القيم التي آمن بها بومدين وحملها في قلبه وعقله وسخر حياته لخدمتها والانتصار لها لا تزال حية مستمرة لأنها قيم أمة تضرب بجذورها في أعماق القِدَمِ وتتطلع من حاضرها الأليم إلى آفاق أوسع وأرحب من الحرية والتقدم والوحدة لقد قال بومدين سنة 1970 معلقا على وفاة الزعيم جمال عبد الناصر: (العظماء يظهرون فجأة ويغيبون فجأة) وقد كان هو نفسه برحيله المفاجئ والغامض تجسيدا دراماتيكيا لما قاله عن رحيل جمال عبد الناصر.
وعلى ذكر مسألة الوحدة وهي إحدى المشاغل الأساسية للأمة العربية في العصر الحديث يحق لنا أن نتساءل ماذا قدم بومدين لقضية الوحدة ؟ وهذا السؤال المشروع يفضي بدوره إلى تساؤل مقابل عن أي وحدة نتحدث ؟ الوحدة العربية أم الوحدة المغاربية ؟ لقد كان بومدين واقعيا فهو رغم إيمانه المطلق بالعروبة وبضرورة التنسيق في المواقف وتدعيم أسس التقارب كان يُدرك أن أوان الوحدة العربية لم يحن بعد ! إذ كان مطلعا على خبايا السياسة العربية وعارفا بنفسية الكثير من النخب الحاكمة في الوطن العربي التي كانت في أغلبيتها تزايد بقضية الوحدة على الجماهير الحائرة لا أكثر ولم يكن بومدين يحب المزايدات أو يهوى الكلام لمجرد الكلام لذلك ركز جهوده ومساعيه العملية على الوحدة المغاربية وحتى هنا نلاحظ قلة تصريحاته وخطبه ولكن سجل له التاريخ مجموعة ضخمة من المواقف الحية المشرفة التي كان يرمي من خلالها إلى بناء مغرب الشعوب في ظل الصمت المسئول وبعيدا عن الضجيج الدعائي الذي اشتهرت به بعض القيادات العربية ومن المفيد توضيحا للحقيقة أن نلقي نظرة ولو خاطفة على كتاب (العرب في العاصفة) الذي وضعه السيد محمد المصمودي وزير خارجية تونس الأسبق وصدر في فرنسا سنة 1977 لنعلم أن بومدين عرض في زيارة له إلى تونس عام 1973 وخلال المحادثات السرية بين البلدين على الرئيس التونسي لحبيب بورقيبة مشروعا وحدويا كاملا شاملا كتمهيد للوحدة المغاربية وقد أوضح بومدين الذي كان جادا حازما في طرحه أن الوحدة المغاربية ستكون مقدمة للوحدة العربية الإسلامية فيما بعد موضحا أن المشاريع الوحدوية في المشرق العربي فشلت لأن القائمين عليها كانوا يفتقرون للجدية وأعرب بومدين عن إيمانه وثقته التامة في مشروع المغرب العربي الموحد.
أهداف الرئيس
وإذا كان هذا المشروع الوحدوي- والكلام دائما للمصمودي- لم يتم فالسبب هو رفض الرئيس التونسي الذي راح يشترط على بومدين أن يتنازل عن القطاع القسنطيني لصالح تونس ! حتى يمكن لتونس أن تكون ندا للجزائر ومساوية لها في الإمكانيات وبالتالي يمكن للوحدة أن تجري بين بلدين متكافئين أي أن بورقيبة أراد أن يُخضع الجزائر لعملية جراحية يقتطع بها الجزء الأكبر من شرقها ! كثمن للدخول في المشروع الوحدوي المغاربي الذي طرحه بومدين ولا نستطيع هنا أن نعرض كل ما تضمنه كتاب وزير الخارجية التونسي الذي كان شاهد عيان على هذا اللقاء التاريخي بين رئيسي البلدين ولكن قراءته تكشف لنا أن الوحدة المغاربية في فكر ومواقف الرئيس هواري بومدين تحتاج إلى دراسة وتحليل عميق حتى يمكن الوقوف على أبعاد الفكر الوحدوي عند بومدين الذي كان دون شك يستوحي تراث الحركة الوطنية ونضالها العتيد في سبيل مغرب عربي موحد حر ومزدهر لذلك نجد أن فكرة الوحدة المغاربية لدى الرئيس هواري بومدين ليست فكرة تائهة معزولة أو قضية تُثار في المناسبات العارضة بل هي جزء من نسق فكري متكامل ودافع أساسي من الدوافع المحركة لسلوكه السياسي وهو ما ينبغي أن يُؤخذ بعين الاعتبار للوصول إلى فهم هذا الجانب من شخصية الرئيس والاقتراب الصحيح من فكره السياسي.
واستكمالا للصورة لابد من الإشارة هنا إلى قضية الاحتلال الإسباني لكل من سبتة ومليلية فالمصادر المؤكدة تذكر أن بومدين شجع وحرض الحسن الثاني ملك المغرب الشقيق على المطالبة باسترداد المدينتين السليبتين متعهدا له أن الجيش الجزائري سيكون إلى جانب الجيش المغربي في حالة وقوع الحرب بين المغرب وإسبانيا من أجل تحرير هاتين المدينتين المغاربيتين فبومدين كان ينظر للمنطقة المغاربية كمنطقة متكاملة أمنيا واستراتيجيا وهي نظرة غاية في الأهمية وبعد النظر.
ويشير بعض الكتاب والباحثين مثل الصحفي والكاتب الفرنسي بول بالطا في دراسته عن استراتيجية بومدين إلى حقيقة أن أحد الدوافع والأهداف الأساسية وراء إصرار وتصميم الرئيس هواري بومدين على تصنيع الجزائر وتقوية اقتصادها هو تحويل الدولة الجزائرية إلى قوة صناعية واقتصادية يكون بمقدورها أن تتحمل أعباء الوحدة المغاربية وتحدياتها الدولية تماما كما كان الأمر مع بروسيا في تجربة الوحدة الألمانية وليست مدارس أشبال الثورة إلا تجسيدا لفلسفة رجل الدولة هواري بومدين التي لم تكن تهدف فقط إلى تكوين نخبة عسكرية ممتازة بل وإلى تزويد الأمة والدولة بجيل من الكفاءات النوعية يكون قادرا على الاضطلاع بمهمة حماية الأمة وضمان قوة وتطور واستمرارية الدولة حتى في حالة مواجهتها لأكثر التحديات تعقيدا وخطورة مثل الحروب الطاحنة أو الكوارث الاقتصادية والطبيعية المُدَمِرَةِ وهي فكرة تعود في أصولها النظرية والعملية إلى التجربة الألمانية.
لقد كان بومدين رجل دولة حقا كما وصفه أعداؤه وأصدقاؤه وكان يمتلك رؤية إستراتيجية بعيدة المدى للواقع الوطني والإقليمي والعالمي برمَّتهِ فقد أعلن في إحدى ندواته الصحفية: (إن هذا العالم فُصل في غيابنا والآن نحن موجودون ويجب إعادة صياغة الواقع الدولي وفق مقتضيات العدالة) ومثل هذا القول يدل بوضوح على أن بومدين في تخطيطه البعيد كان يتطلع إلى المساهمة في إعادة ترتيب الأوضاع الدولية وفق منظور جديد وهو في هذا المجال رائد دون شك.
تحليلاتويبقى الخلل الوحيد في المرحلة البومدينية كامنا في محيط الرجل الأول فباستثناء قلة من رجال الدولة الأكفاء فقد كان بومدين محاطا بمجموعة من الأشخاص الذين لم يكونوا في مستوى طموحاته ورؤاه كما لم يكونوا يقينا في مستوى نزاهته الشخصية وزهده وترفعه الأسطوري عن الإغراءات المادية والمعنوية ويُستفاد من سيرة بعض الذين عملوا مع الرئيس أنهم لم يكونوا في مستوى رجال الدولة وإنما كانوا مجرد إداريين عاديين لا أكثر وكانوا بصورة أخص عاجزين عن الارتقاء إلى مستوى أفقه الاستراتيجي ولم يكونوا على دراية كافية بالمخاطر التي كانت محدقة بالجزائر من كل الجوانب وكان بومدين متقدما عليهم بخمسين عاما على الأقل والدليل على صحة هذا التحليل أن بومدين لم يكد يغيب عن ساحة الأحداث حتى بدأ التراجع المريع على كل المستويات ولم يكن بمقدور بومدين أن يجسد كل طموحاته- التي هي طموحات رجل دولة _ وأن يضع تصوراته كلها موضع التطبيق الميداني لأنه لا يمكن لرجل مهما كانت عظمته وقدراته القيادية أن يفتتح فصلا جديدا في التاريخ مالم يكن مدعوما ومحاطا بنخبة لها من الكفاية والقدرة ما يجعلها أهلا لحماية ودعم الرجل الأول أو مواصلة المسيرة من بعده وليس التربص به وتَحيُّنْ الفرص لتقويض مبادئه ومنجزاته فقد بادر الذين آل إليهم الأمر مباشرة بعد رحيل بومدين إلى التخلي عن سياسته في تطوير الصناعات الجزائرية عن طريق التعاون مع الألمان والإيطاليين مثلا وفوتوا على الوطن فرصا لا تُقدر بثمن كما أنهم بادروا بالقضاء على مدراس أشبال الثورة قضاء مبرما ولكن وبعد سنوات طويلة ضائعة هاهي الجزائر تُعيد ربط ما انقطع من حبال الماضي وتستأنف التعاون الصناعي مع الألمان والإيطاليين وتؤسس لتعاون صناعي مع الإيرانيين والكوريين وتُعيد فتح مدارس أشبال الثورة وهي خطوات تُوحي بالأمل وتستدعي مزيدا من العمل وفاءً واستجابةً لقيم الدولة ومجد الأمة وسلامة المجتمع.
وتبقى إنجازات بومدين في الحرب والسلم على المستويين الإقليمي والعالمي شاهدة على عظمة الرجل ومقدرته فهو واحد من بناة الدول العظام الذين أنجبهم المغرب الكبير مثل يوسف بن تاشفين (مؤسس الدولة المرابطية) وعبد المؤمن بن علي (مؤسس الدولة الموحدية العظيمة) وابن حماد (مؤسس الدولة الحمادية) وغيرهم كثير فالأرضية التي كان يقف عليها بومدين لم تكن قفرا بل كانت غاية في الثراء والعطاء ويبقى دور العظماء يمثل ذلك التراث وهضمه ووضعه في خدمة الحاضر وديناميكيته الحية المتجددة وضمن هذه الرؤية نستطيع أن نفهم ما قاله الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في رفيق دربه: (رحمه الله رحمة واسعة لقد كان رجلا عظيما) إي نعم الرحمة والرجولة والعظمة تلخيص رائع لمسيرة ومنجزات القائد والزعيم هواري بومدين.
وهنا أشعر بضرورة تلبية رغبة الذين يُحبون التركيز على ما يعتبرونه عيوبا وأخطاء في شخصية ومسيرة بومدين فالكثيرون يُسهبون في إبراز أخطاء بومدين ولكنهم لم يقولوا لنا لماذا لم يصححوا هذه الأخطاء من بعده ؟ فمن يوم رحيله وعلى امتداد عشرين سنة تكلموا وانتقدوا ولكنهم لم ينجزوا إلا شيئا واحدا وهو العمل على تدمير كل ما حققه الوطن في عهده ! فالكل يعرف الحالة التي أصبحت عليها الجزائر بعد مدة العشرين سنة تلك ثم إن بومدين لم يدَّعِ العصمة فقد كان يردد باستمرار (الذين لا يعملون هم وحدهم الذين لا يخطئون) لكن عندما نقرأ مثلا كتاب (جذور الأزمة في الجزائر) للسيد أبو جرة سلطاني نجد أنه يحاول بطريقة أو بأخرى _ على غرار كل الإسلاميين- الإساءة لشخص الرئيس الراحل إذ يصفه طورا أنه ثعبان أسود ومرة بالثعبان الأحمر !...لكن هيهات فبومدين خدم الإسلام كما لم يخدمه من اتخذوا من الإسلام سلما للمطامح الشخصية والمكاسب الاجتماعية والأسرية وجعلوا من هذا الدين العظيم أداة لتحصيل المنافع المادية التي كان بومدين بزهده الحقيقي يضعها تحت أقدامه حقا لا نجد مناصا ونحن نسمع ونقرأ محاولات النيل من شخصية الرئيس الراحل إلا أن نستعيد مقولة الفيلسوف الألماني (شوبنهور) في أمثال هؤلاء (ذوو النفوس الدنيئة يجدون المتعة في البحث عن أخطاء رجل عظيم) لكن ولحسن الحظ فليس كل الرجال يكرهون الرجال الكبار فعندما نقرأ مذكرات الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي ومذكرات الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد- الذي لن يغفر له التاريخ مسؤوليته في القضاء على مشروع الدولة الذي كان قد قطع شوطا كبيرا يوم وفاة بومدين- وكتابات الدكتور محي الدين عميمور ونستمع لشهادة الدكتور المؤرخ محمد العربي الزبيري نستطيع أن نقف على جوانب رائعة من شخصية الرئيس هواري بومدين بأبعادها الفكرية والعملية ومنطلقاتها الثورية والقومية والإنسانية تلك الأبعاد والمنطلقات التي نجدها ملخصة أحسن تلخيص في ما قاله وزير الخارجية البلجيكي سنة 1978 تعليقا على وفاة بومدين: (بومدين رجل الدولة العظيم فقدانه خسارة للعالم أجمع وليس لبلاده فقط) و أيضا فيما قاله كارلوس روملولي رئيس الفيليبين وقتها: (إن الرئيس هواري بومدين سيبقى واحدا من كبار الثائرين الذين عرفهم التاريخ المعاصر)
التعليقات على الموضوع