هذا ما لا يعرفه الجزائريون عن هواري بومدين
- كان يدسّ الآيات القرآنية وسط الكتب المدرسية حتى يحفظها دون علم معلمه

ناصر / عـصـام بـن منـيـة
لو قدّر للرئيس الراحل هواري بومدين أن يعيش بيننا، إلى يومنا هذا، لبلغ من العمر 82 سنة، لأجل ذلك لم يكن الأمر هينا، ونحن نبحث في هذه السنوات الضاربة في ما قبل الثورة وأثناءها وبعدها بحثا عن ملامح الوجه الآخر لرجل عاش لغزا ومات لغزا، وعندما توفي لم يكن عمره قد زاد عن السادسة والأربعين، دون أن يترك ابنا واحدا، وترك بالمقابل الكثير من علامات الاستفهام.
والمدهش في رحلة البحث عن سيرة بومدين في قلبالمنطقة التي ولد فيها ڤالمة، أو المدينة التي درس فيهاقسنطينة، أن أكثر الناس زمالة له وحتى أقربهم إليه منأهله وأصدقائه، أقسموا بأنهم يجهلون الكثير منخصوصيات هذا الرجل، الذي رحل دون أن يترك وراءهمالا ولا أملاكا ولا حتى أولادا، بل ترك مواقف وأقوالا لازالت تصنع الحدث في كل مناسبة تمر بها البلاد أو حتىبعض البلدان الأخرى، ولعلٌ ما أدهشنا خلال محاولتنااقتحام القلعة الحصينة للبحث في خصوصيات الرئيس الراحل هواري بومدين، أن أهله وأفراد عائلته لازالوايؤمنون بأن التطرق لخصوصيات الزعيم من الطابوهات التي لا يجب أن تكسر مدى الحياة، فالرجل لم يكنككل الرجال، بل هو حالة خاصة لا تتكرر .. نعم هكذا يؤمنون.
تعود الذكرى 36، وتعود معها نفس الأسئلة من هو بومدين؟ كيف وصل للحكم وهو دون الثالثة والثلاثين،وكيف رحل وهو دون السادسة والأربعين؟ ولا جواب سوى عن كيف ولد، فمسقط رأسه هو دوار بني عدٌيبمشتة العرعرة ببلدية مجاز عمار حاليا، بتاريخ 23 أوت 1932، من والده الحاج ابراهيم بوخروبة ووالدته تونسبوهزيلة، ومسجل ضمن سجلات الحالة المدنية ببلدية عين احساينية التي أصبحت حاليا تحمل اسمه الثوريهواري بومدين، وهي البلدة التي لم يبق فيها أي فرد من عائلة بوخروبة.
بومدين كان أحمر الشعر أزرق العينين
كان صعبا على هواري بومدين، أن يقود القارة السمراء، فعندما رأس الاتحاد الإفريقي ثار رئيس الزائير فيذلك الوقت، وتساءل كيف لرجل أشقر، بعينين زرقاوين يقود القارة السمراء، التي يقطنها أصحاب البشرةالسوداء، ولكن بومدين ردّ عليه بأن دمه أسمر، وصبر إلى أن أصبح رمزا إفريقيا وهو في ربيع العمر.
الحاج عمي علي بوهزيلة ابن خال الزعيم الراحل ورفيق طفولته، والذي وجدناه في حالة صحية صعبة، بعدتقدمه في العمر، لم يبخل علينا بشهادته رغم المرض، حاولنا إرجاعه بسنوات عمره الطويلة إلى طفولته،ليتذكر بعض المشاهد عن طفولته وطفولة ابن عمته محمد بوخروبة، فأسرد بالقول: بومدين كان متميزابسلوكه وتصرفاته من بين كل أفراد العائلة، حيث كان انطوائيا، متشددا وجادا في معاملاته، حتى في اللعب،لا يحب السخرية والاستهزاء، كان منذ الصغر حالما، ناقما على الاستعمار الفرنسي، وأبناء الكولون، كان فيشخصيته شيء لم نكن نفهمه في ذلك الوقت ـ حسبه ـ، قبل أن يضيف عمي علي بوهزيلة، بأنه ومع مرورالسنين تبيّن أن محمد بوخروبة كان متميزا في كل شيء وأن قوة شخصيته صقلتها الظروف الاجتماعية الصعبةالتي ترعرع فيها، كونه ينحدر من عائلة كثيرة العدد وبسيطة ماديا، يعتمد فيها والده الحاج ابراهيم علىالفلاحة في معيشته، وتعبر بصدق عن مدى تعلقه بالجزائر.
أما الحاج مصطفى سريدي الذي رحل عنٌا منذ فترة قصيرة، فقد خصّ الشروق اليومي في رحلة البحثللغوص في بعض خصوصيات الراحل هواري بومدين، رفيق دربه في الدراسة، وذكر لنا أنه تعرف على محمدبوخروبة في مدرسة ألومبير والتي أصبحت حاليا تسمى بإكمالية محمد عبده بقلب مدينة ڤالمة، وذكرالمرحوم مصطفى سريدي، أن الطفل محمد بوخروبة، عندما بلغ سن السادسة من عمره، سنة 1938 حلٌبمدرسة آلمبير بمدينة ڤالمة، قادما إليها من مشتة العرعرة حيث كان قد حفظ جزءا من القرآن، ليكملدراسته النظامية في ذلك الوقت، وكانت مدرسة آلمبير مقسمٌة إلى قسمين، قسم خاص بأبناء المعمرينوالكولون وأبناء الأغنياء والأعيان، وقسم آخر مخصص للآهالي من عامة الناس، ومن الطبيعي أن يكون محمدفي القسم الثاني.
وعلى الرغم من ذلك كان يدرسٌه المعلم الفرنسي المسمى سيغالا، الذي تم استدعاؤه في منتصف العامالدراسي لأداء واجب الخدمة الوطنية، فاستخلفه وقتها معلم فرنسي آخر يدعى لوروا، وهو المعلم الذيلاحظ أن محمد بوخروبة، كان سابقا لجيله، إذ كان سريع الحفظ والفهم، وأنه يجتاز كل الامتحانات بسهولةمطلقة، كما أنه كان يبدو أنيقا، رغم حضوره إلى المدرسة حافي القدمين أو مرتديا نعلا باليا مع قشابيةالصوف، التي نسجتها له والدته تونس بوهزيلة في الدشرة بمشتة العرعرة، ولم تغادره خلال مرحلته الدراسية،ولأن محمد بوخروبة كان أطول أترابه في الصف الابتدائي، فقد زادت قشابية الصوف من أناقته، وكانت جدلائقة على هندامه، وزاد لونها البني في جمال الطفل الأشقر صاحب العينين الزرقاوين، والتي كان ينظر بهمارغم صغر سنٌه في ذلك الوقت بنظرات جد حادة، كنا نظن في البداية أنها جدّية مبالغ فيها.
كان يصرّ على حضور ملتقيات الفكر الإسلامي
مهما قيل عن ميولات بومدين نحو المعسكر الشرقي بما في ذلك من تناقضات فكرية وحتى عقائدية، فإنالتاريخ سيشهد على أن الراحل وفّر جوا فكريا إسلاميا راقيا لم تعرفه الجزائر أبدا، وهو ملتقيات الفكرالإسلامي التي سلّم مشعلها لمفكرين كبار في الجزائر مثل أحمد طالب الابراهيمي ومالك بن نبي ونايتبلقاسم وأحمد حماني، وكان بومدين يصرّ على أن يحضر افتتاح كل ملتقى أو يكتب بيده رسالة للمحاضرين،ودعا إلى الملتقى كبار العلماء مثل الشيخ المرحوم سعيد البوطي والمرحوم محمد الغزالي والشيخ يوسفالقرضاوي وحتى موسى الصدر الشيعي الذي اختفى في رحلة لغز من ليبيا إلى إيطاليا، وخلال أيام الملتقىكان يقيم ملتقيات موازية وخاصة، يلتقي فيها مع كل عالم ويبقى رفقته لعدة ساعات، ناهيك على أنهصاحب فكرة إنشاء الجامعة الإسلامية الأمير عبد القادر بقسنطينة.
محمد بوخروبة لم تمنعه الدراسة في مدرسة آلمبير الفرنسية، من الاستمرار في حفظ القرآن، حتى ختمه، وكانفي العطلة المدرسية، يرجع إلى دوار بني عدٌي ليعلم أطفال الدشرة حفظ القرآن، كما حفظه هو بتحايله علىمعلمٌه الفرنسي، حيث كان بحسب المرحوم مصطفى سريدي يضع دفترا كان قد دوٌن عليه آيات قرآنيةوسط كراس اللغة الفرنسية، وعندما ينشغل المعلم في تحضير الدروس أو تصحيح الكراريس، يقوم محمدبقراءة تلك الآيات سرا، دون أن ينكشف أمره من أحد سوى زميله سليمان بن عبدة الذي كان يجالسه فينفس الطاولة. هذا التصرف أكد بعد السنوات الطويلة بأن محمد بوخروبة الفتى، اعتاد على عدم تضييع شيءمن وقته، لأنه كان يعلم قيمة ذلك الوقت، ومعاناته بعيدا عن عائلته التي بقيت مقيمة في دوار بني عدٌيبينما استقر هو عند إحدى العائلات بمنطقة باب السوق بمدينة ڤالمة، مقابل أن يدفع لها والده الحاجابراهيم شيئا من المؤونة والقمح.
وقد استقر محمد بوخروبة حسب ابن خاله علي بوهزيلة في بادئ الأمر بمنطقة باب السوق ثم عند عائلةأخرى بمنطقة باب سكيكدة وقضى آخر سنة من دراسته في مدرسة آلمبير عند عائلة بحي بومرشي عرب،ويتذكر كبار السنٌ بهذا الحي العريق بوسط مدينة ڤالمة، كيف كان محمد يحفظ دروسه بمدخل الحي، أمامالمارة، ولم تلهه أبدا ألعاب الطفولة حسب عمي علي بوهزيلة عن دراسته، التي تفوّق فيها، كتفوقه في حفظالقرآن الذي ختمه عند الثالثة عشر من عمره وتحديدا سنة 1947 .
المرحوم الشيخ مصطفى سريدي ذكر لنا في شهادته، أن الفتى محمد بوخروبة، كان سابقا لجيله، يتميز بينأقرانه بقوة الشخصية، مواظبا على دروسه وأداء كل واجباته، حتى لا يمنح أي فرصة للمعلمين الفرنسيينلإهانته بأي كلمة قد تجرح مشاعره وتمس بكرامته، أو الاعتداء عليه بالضرب، ويتذكر أترابه وزملاؤه في القسمالتأهيلي الثالث عندما لم يتمكن محمد من مراجعة أحد الدروس، وعندما شرع المعلم الفرنسي في توجيهالأسئلة للتلاميذ، حفظ منهم الطفل الفطن، وبذكاء خارق شرع في رفع أصبع يده للمشاركة في الإجابةالصحيحة، وهو ما جلب انتباه معلميه الفرنسيين، خاصة وأنه كان حسب الشيخ مصطفى يتحصل دائما علىالنقاط الجيدة في امتحانات آخر السنة، وأنه لم يسقط ولا مرٌة في مرحلته الدراسية.
محمد بوخروبة الذي أصبح فيما بعدا مجاهدا ثوريا ورئيسا للجمهورية الجزائرية، كان في صغره يتميز بالأنفةوالكرامة، ولم يضع يوما قدميه في المطعم المدرسي، المخصص للتلاميذ المعوزين، وأولئك الذين يقطنونخارج مدينة ڤالمة كحال محمد الذي كانت تتوفر فيه كل الشروط للاستفادة من مختلف المزايا التي يوفرهاالفرنسيون للتلاميذ، إلاٌ أنه كان يرفض ذلك رفضا قاطعا، وحدث مرٌة بأن قام مدير مدرسة آلمبير المدعوفاني بتسجيل خمسة تلاميذ لتمكينهم من أحذية أو نعال، ومن بين المسجلين كان محمد بوخروبة، وبعد أسبوعجلب المدير مجموعة من النعال لتوزيعها على التلاميذ المسجلين، لكن محمد بوخروبة رفض استلامها، وهوما أثار تساؤل مدير المدرسة آنذاك وعبر عنها بالقول إنه جلب تلك الحصة من النعال حتى لا يمشي التلاميذالنجباء على الأقل حفاة، كما كان الشأن لمحمد.
أصيب في رجله خلال مظاهرات الثامن ماي
عندما سألنا ابن خال الرئيس الراحل محمد بوخروبة، عمي علي بوهزيلة، عن حقيقة الرواية التي تتحدث عنإصابة ابن عمته برصاصة طائشة في أحداث الثامن ماي 45، لم يقدم لنا إجابة واضحة، وقال إنه لم يتذكرتلك الحادثة، التي تداولها عدد من الكتاب والمؤرخين الذين خطٌوا لتوثيق حياة هواري بومدين، وذكر عميعلي أنه يتذكر عديد المواقف الشجاعة لابن عمته الذي قال إنه كان يكره الفرنسيين وكل ما هو فرنسي،بدليل أنه عندما سافر إلى القاهرة رفقة محمد الصالح شيروف للالتحاق بالأزهر، عاد بعد سنوات مناضلاوثوريا في وجه فرنسا، وتحدثت عديد الروايات أن محمد بوخروبة وخلال تواجده في مدرسة آلمبير بڤالمة سنة1945، وقعت أحداث الثامن ماي وكان قد أنشد مثل باقي أترابه وسط جموع المواطنين الذين خرجوا فيمسيرة ذلك اليوم المشؤوم مرددا يحيا مصالي، وغيرها من العبارات التي جعلت عساكر فرنسا يطلقون النارفي كل الاتجاهات، ليفرٌ بعدها الصبي محمد بوخروبة وسط أترابه باتجاه أحد الأحياء القريبة ليقفز من أعلىسور المدرسة معتمدا على الأعمدة الكهربائية الملاصقة للجدار، فسقط على علب السردين الصدئة والتيكانت وقتها تغطيها أوراق الشجر الشائكة، ما تسبب في إصابته بجروح بليغة على مستوى الساق، وأجبره علىالعودة بعد أيام قليلة من تلك الأحداث مرتديا قشابيته الصوفية بنية اللون لإخفاء تلك الجروح، على الرغممن ارتفاع درجات الحرارة في شهر ماي.
هذا ما روته شهادات بعض زملائه في الدراسة، لكن بعض الشهادات الأخرى ذهبت على حد التأكيد أنمحمد بوخروبة الذي شارك في مسيرة الثامن تعرض لإصابة على مستوى الساق من رصاصة طائشة، وتلقىعلى إثرها العلاج في المستشفى، وهي الرواية التي لم نجد لها أي تأكيد حتى لدى المقربين منه.
محمد بوخروبة كان رجوليا في تعاملاته منذ نعومة أظافره، كان يتميز بروح القيادة، أصبح معلما للقرآن الذيعلمٌه لأبناء دشرته ولم يتجاوز من العمر الرابعة عشر، كان صبورا ولم يسمعه أحد من زملائه في الدراسةيشتكي بردا أو حرا أو جوعا، والأهم من كل هذا ابتعاده عن والديه للدراسة في مدينة ڤالمة في سن مبكرةلينتقل بعدها إلى قسنطينة التي له فيها حكايات أخرى مع أصدقائه والتي انطلق منها في رحلته الطويلةوالشاقة إلى القاهرة التي سافر إليها مشيا على الأقدام برفقة محمد الصالح شيروف.
وأكد رفيقا الدرب علي بوهزيلة ومصطفى سيريدي أن أخلاق هواري بومدين كانت تدفعه دوما للاعترافبفضل الغير عليه، وهو ما جسده في سياسته وعلاقاته مع الدول، كما جسّد ذلك في زيارته إلى قسنطينةحيث طلب الالتقاء بمعلمه الشيخ الطيب، الذي احتضن بومدين خلال تواجده بمدينة الجسر العتيق وقبلالسفر إلى القاهرة، بل أنه طالب حتى بتكريمه، وعندما زار الشيخ الطيب الجزائر العاصمة سنة 1976وهواري بومدين رئيسا للجمهورية، وضع هذا الأخير تحت تصرفه سيارة خاصة من باب كرم التلميذ لأستاذه.
وللأسف فإن ثقل السنين على عديد الشخصيات الذين لم تسمح لنا ظروفهم الصحية بجمع شهاداتهموجعلتنا نكتفي بهذا القدر مما سجلناه عن طفولة هذا الطفل الذي كان يدرس حافي القدمين وينظر إلىماسحي الأحذية بعين مشفقة، قبل أن يثور على واقعه المر ويصبح رئيسا للجزائر وهو في عز الشباب ثائراعلى الفقر والتخلف ومهنة مسح الأحذية التي رسخت في ذاكرة طفل لم يكن يمتلك حذاء يذهب به لطلبالعلم.
التعليقات على الموضوع